إن
الإيمان بوجود الخالق ركن العقيدة الأول, وهو القاعدة التي تبنى عليها
مسائل العقيدة كلها, والإيمان بهذا الوجود هو السبيل إلى تحقيق الفهم
الصحيح للخلق والمخلوقات ومعرفة معنى الوجود في هذا الكون.
فالكون
الذي نراه ونشاهده ممكن الوجود; بمعنى أن العقل يقضي بأنه يحتمل أن يوجد
بعد أن لم يكن موجودا ويحتمل ألا يوجد; فلابد أن يكون هناك مؤثر خارجي رجح
فيه إمكان وجوده وأبعد عدمه, وقد كان الكون في أصله قابلا لكليهما بحد سواء
وهذا الموجد هو الله عز وجل; قال تعالى: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ * أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لَا يُوقِنُونَ}
[الطور:35-36] وكل عاقل بالمشاهدة والضرورة العقلية يقر بأن المخلوقات
وجدت بعد العدم أي هي محدثة, والموجود بعد العدم لابد له من موجد أي محدث,
وتسلسل المحدثات ممتنع باتفاق العقلاء, والتسلسل هو أن يكون للمحدث محدث
وللمحدث محدث آخر إلى غير نهاية, ولا يزول هذا التسلسل إلا بمحدث أزلي لا
يحتاج إلى غيره ولا يفتقر في وجوده إلى موجد, وهذا هو الله واجب الوجود.
وواجب الوجود مستقل في الإيجاد أي لا يستند وجوده إلى شيء; قال تعالى: {قَالَ
فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ * قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ
وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ * قَالَ لِمَنْ
حَوْلَهُ أَلَا تَسْتَمِعُونَ * قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ
الْأَوَّلِينَ * قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ
لَمَجْنُونٌ * قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا
إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ} [الشعراء:23-28].
والإتقان
والحكمة المبثوثان في أرجاء الكون وفي تفاصيل الخلق يجعلان من ينسب الخلق
إلى المصادفة أو إلى المادة والطبيعة معدودا من المجانين والسفهاء; قال
تعالى: {وَتَرَى
الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ
اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا
تَفْعَلُونَ} [النمل:88]، وقال سبحانه: {الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ} [السجدة:7]، وقال جل شأنه: {لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [يس:40]، وقال عز وجل: {أَلَمْ
نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا * وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا * وَخَلَقْنَاكُمْ
أَزْوَاجًا * وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا * وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ
لِبَاسًا * وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا * وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ
سَبْعًا شِدَادًا * وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا * وَأَنْزَلْنَا مِنَ
الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا * لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَبَاتًا} [النبأ:6-15]، وقال: {وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ * وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ} [الذاريات:20-21]، وقال: {سَنُرِيهِمْ
آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ
أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ
شَهِيدٌ} [فصلت:53].
ولقد
استدل الخليل إبراهيم عليه السلام على حدوث ما سوى الله تعالى وإمكانه
وأنه لا يصح أن يكون شيء منها إلها خالقا بما يطرأ عليها من التغير
والتحول; قال تعالى: {وَكَذَلِكَ
نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ
الْمُوقِنِينَ * فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ
هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ * فَلَمَّا
رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ
لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ *
فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ
فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ *
إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ
حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [الأنعام:75-79] فكل
مخلوق لابد له من خالق; لأن الأجسام لو كانت قائمة بأنفسها مع تجانس ذواتها
لم تكن تختلف بالصفات والأوقات والأحوال والمحال؛ فلما اختلفت علمنا أن
لها مخصصا خص كل واحد بصفات.
ومن
مظاهر التغير والتحول في الأنفس انقلاب النطفة علقة ثم مضغة ثم لحما ودما,
ولابد لهذه الأحوال الطارئة على النطفة من صانع حكيم; لأن حدوثها من غير
فاعل أو حدوثها بتأثير مؤثر غير عاقل أو حكيم أو مختار محال; قال تعالى: {قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى * قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى}
[طه:49-50] أي أعطي صورته الخاصة وشكله المعين المطابقين للحكمة والمنفعة
المنوطة به; فالأجسام متماثلة متفقة الحقيقة لتركبها من الجواهر المتجانسة,
فلزم وجود مخصص لها ببعض الصفات والأعراض المميزة, وهذا المخصص هو الله
تعالى الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى.
إن
الإنسان في حاجة دائما لتذكير نفسه قبل غيره بخالقه العظيم الذي أوجده
وأمده وأعانه بما يحقق له السعادة في الدنيا والآخرة، وسبيل ذلك أن يقر
ويعترف ويعمل بمقام العبودية خضوعا وامتثالا لمقتضيات مقام الربوبية,
وتحقيقا لما خلق له: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56].